العلم و الجهل
عندما يصبح العلم جهلا و ظلاما يكرس حبايته للفقر و العبودية :
الجملة المشهورة : العلم نور و الجهل عار . هذه المقولة لن يجادلك فيها عاقل . لكن هل تم إستخدام هذه المقولة لإستعباد الشعوب؟
الإنسان خلق ليتعلم ، و الفطرة الإنسانية تدفعه للإكتشاف و التعلم منذ الشهور الأولى لما بعد الولادة . يمكننا القول أن هذه الرغبة في التعلم مدفوعة بفعل غريزي ، و هذا يمكن ملاحظته في سلوك الإنسان البدائي الذي دفعته فطرته للبحث و التطوير.
الجدير بالذكر أن الناس لم يخلقو جميعا ليتعلموا نفس العلوم . فكل شخص لديه قابلية من عدمها لتعلم علوم و جهل أخرى . و هذا ما كان يطبع عملية التعلم في القرون الغابرة ، فقد كانت مبنية على الرغبة و الميولات . و كانت ما يسمى بالتجربة العملية ، عبر الممارسة اليومية هي أفضل وسائل التعلم ، كما هو الحال في المهن الحرفية كالتجارة و النجارة و الخياطة و غيرها .
لكن مع توالي السنين تطورت العملية التعليمية ، ليتم تعليبها كما يعلب الطعام الصناعي . فتم خنق حرية التعلم الفطرية داخل حجر المدارس و بين طيات المناهج التعليمية المعدة و المنقحة سلفا .
فجعلنا من المناهج التعليمية الرسمية المصدر الوحيد المقدس للمعلومة . أجبرنا العقول على تجرع محتوى هذه المناهج و حفظها عن ظهر قلب و الإخلاص لمحتواها و إعتباره الحقيقة المطلقة التي لا تجوز مناقشتها أو إنتقادها .
المدارس في أصلها وجدت لتقرب طالبي العلم من غايتهم و تيسر لهم أمورهم . فكانت في نسخها الأولى ساحات تضم بين جنباتها حلقات علم مختلفة . و كان للمتعلم حق الإختيار . إختيار المعرفة التي تتماشى مع رغبته و تروي عطشه ، دون أن يكون مجبرا على تلقي علوم لا يرغب فيها و لا تتناسق مع أهدافه في الحياة .
اليوم تغير الحال ، فأصبح الجميع مجبرين على تعلم علوم معينة و بطريقة محددة و في زمن موثق . لم تعد العملية التعليمية مبنية على الحرية العلمية ، إنما على رغبة الدولة .
الدولة جعلت من المدارس أديرة و هي جمع "دير" و هي دار تعلم الشرائع في الديانة المسيحية ، يجبر المتعلمون فيها على حفظ و إستظهار كل ما وضع في المناهج التعليمية. و لم يعد له الحق في الإختيار خاصة في العشر سنوات الأولى من المرحلة التعليمية .
لم يعد له الحق في إنتقاد أو مجادلة مضامين هذه المناهج ، بدعوى أنها من الوزارة الوصية على التعليم . فهي أدرى بمصلحة المتعلم ، و هي أيضا من يمتلك الحقيقة الكاملة المقدسة .
هذه القوانين الصارمة بالإضافة لأنها تتعارض مع الفطرة التعليمية المبنية على حرية الإختيار بدافع الرغبة ، فهي تجهض الحس الإبداعي و النقدي للمتعلم . فليس له رأي و لا حق له في مجادلة محتوى الكتاب المدرسي .
فأصبحت المدارس تفرخ " من كلمة التفريخ " أجيالا من الببغاوات التي تحفظ تردد عن غير علم محتوى المناهج التعليمية كل عام نفس المنهج لا تغير فيه .
الدول الغير متقدمة جعلت من المدارس سجونا تقبر فيها رغبات و أحلام و إبداعات المتعلمين .
فأصبحت مكانا لغسل الأدمغة و تعليمها كل ما يخدم مصالح الأنظمة الإقتصادية و السياسية و العسكرية . فأصبح خلط الأكاذيب بالحقائق و إخفاء هذه الأخيرة مباحا في ظل خدمة مصلحة النظام . فحتى العلوم الفكرية كالفلسفة، التاريخ، المنطق.. التي لا أحد يمتلك فيها الحقيقة المطلقة . أصبحت مقولبة في كبسولات جاهزة للإستهلاك . و على الطالب إبتلاعها كما هي بدون جدال أو نقاشة. فلا يحق للمتعلم التشكيك أو إنتقاد الوقائع و القرارات التاريخية ، و في بعض الدول المضطهدة ، قد يقودك التفكير خارج المقرر للسجن مثل مصر .
العلوم ليست متشابهة ، فهناك علوم يجب تقنين تلقينها و ممارستها على الأقل في المرحلة التعليمية ، و هنا أخصص الذكر بالطب و قواعد الإنشاء و البناء لأنها حساسة .
لكن بقية العلوم يجب أن تتخلص من القيود و الحواجز . و هنا أخص بالذكر اللغات ، التاريخ ، الفلسفة ، الجغرافيا ، الفنون ، الفيزياء و الرياضيات . يجب أن تترك للمتعلم حرية الإختيار في ما يخص المواد التي يرغب في تعلمها و كيفية تعلمها . يجب أيضا توفير قدر أكبر من حرية المصادر و عدم حصرها في مناهج تعليمية موضوعة بعناية من طرف الدولة .
المدارس يجب أن تتوفر على قدر كبير من الإستقلال عن الحكومات و سياسة الدولة . فمن المعيب أن تسمع عن دول تضع و تغير سياستها التعليمية بما يتماشى مع مصالح الشركات الأجنبية المتعطشة لليد العاملة الغبية و الرخيصة و المطيعة. فتجعل بذلك من المدارس مصانع لتفريخ اليد العاملة التي تلهث وراء وظيفة "محطمة للطموح و الإبداع" مقابل راتب شهري هزيل بالكاد يسد الرغبات الإستهلاكية و فوائد القروض.
المدارس يجب أن تلغي قدر الإمكان نظام الحفظ و الاختبارات الروتينية التي تقيم ذكاء و مستوى الطلاب بقدر إنسجامهم "حفظهم " مع مضامين المقررات الدراسية.
نظام تعليمي يعطي الدرجات العليا لمن يتقيئ على ورقة الإمتحان " من الأفضل بنفس أسلوب و كلمات المدرس " ما تضمنته المقررات التعليمية.
حرية التعليم يجب أن تعزز بالعلوم التطبيقية ، فالحياة هي أفضل مدرسة و الإختبار الأكثر مصداقية مقارنة مع نظام مبني على التعلم النظري و الإمتحانات التي ينسى حتى الطلبة المتفوقون ما أعدوه من أجلها مباشرة بعد الانتهاء من الإمتحان .
أيها السادة و السيدات ، إسمحو لي أن أخبركم أنه من الغباء إجبار الطلبة على حفظ تاريخ إنطلاق الحرب العالمية الثانية .
من المخزي إجبار الطلبة على حفظ تاريخ توقيع معاهدة فرساي في حين يجهلون تاريخ وطنهم .
من الجنون إجبار المتعلمين على حفظ تاريخ إنطلاق الثورة الفرنسية و البلشفية و هم يجهلون أسبابها و دوافعها و فوق ذلك قد يكونون ممن يعيشون في دول غير ديمقراطية .
أيها السادة و السيدات علموا أولادكم ثمن الحرية و ضرورة الحفاظ عليها ، أما التواريخ فيمكن البحث عنها عند الحاجة .
و بالحديث عن الحرية فلا خير في مدارس لا يتعلم طلابها مبادئ الحرية المالية و نظام القروض و مخاطرها . لا خير في مدارس لا تشجع على الإستقلال المهني و الإستثمار و تعلم قواعد الإدخار و التجارة و المبادلات و المعاملات.
الدول العظمى لا تدفع بشبابها ليصبحوا موظفين حكوميين أو أجراء في القطاع الخاص مهما كانت وظائفهم . إنما تشجعهم على تبني روح الإبتكار و الإستثمار . أما اليد العاملة فهي تتكفل بإستيرادها من الدول الغير النامية التي تم تغيير مناهجها لتنشء لنا مجموعة من المهندسين و التقنيين بعقلية موظفين مطيعين ، غارقين في الديون و لا حلم و لا رغبة لهم في التحرر .
الدول العظمى تؤمن أن المهندس بعقلية المستثمر أفضل للبلاد و العباد من المهندس بعقلية الموظف . فالأول يخلق فرص الشغل و الثاني يبحث عن فرصة للشغل .
للأسف فالانظمة التعليمية في الدول الغير متقدمة محكوم عليها بالفشل . و هذا راجع إما لعدم إستقلاليتها و خضوعها "كباقي القطاعات" للتبعية الخارجية أو الداخلية بما يخدم مصلح الأنظمة . أو لأنها موضوعة في يد أشخاص لا تتوفر فيهم شروط الإبداع و التفكير الحر و المعرفة و الحكمة.
ستصبح الدول النامية دولا قوية حينما:
- تتوقف عن تقييم و تصنيف طلابها و شبابها بين مجتهد ناجح و كسول فاشل بناء على نتائج الإمتحانات. حيث أن هذه الإمتحانات مبنية على منطق "بضاعتكم ردت إليكم" . فلا يمكن إختبار قدرة السمكة على الطيران مع النسور ، و لا يمكن إختبار قدرة النسور على الغوص في أعماق المحيطات مع الحيتان .
- تتوقف عن جعل أنظمتها التعليمية أداة لخدمة الأنظمة الحاكمة . الشعب المتعلم الحر هو أساس الدولة القوية المستقرة.
- تتوقف عن تسخير مدارسها و مناهجها التعليمية لخدمة مصالح الدول القوية ، بداية باللغات المدرسة و إنتهاء بمنهجية التدريس المعتادة .
- تتوقف عن جعل مدارسها مقابر لأحلام و طموحات شبابها .
- تكرس مبدأ التعلم " قدر الإمكان " على أساس الرغبة و الموهبة و التطبيق و الممارسة العملية . فالبقال أو التاجر الذي لم يدخل في حياته المدرسة الرسمية يمتلك قدرات هائلة في الحساب و التجارة و النقل و التسيير و التسويق في ظرف خمسة عشرة سنة و يحصل بعدها على ثروة و مشروع خاص ، في حين يمضي الطالب عشرين سنة في دراسة كل و أي شيء ، ليحصل بعدها على دبلوم في إحدى هذه التخصصات " مع نظرة شمولية لكي لا ننقس من قيمة التخصصات" . و يبدأ بعدها رحلة البحث عن وظيفة براتب شهري " و أحيانا ظروف علم مذلة " يبدأ بها حياته و يسدد قروضه التعليمية . في حين أنه بنظام تعليمي مركز مبني على الرغبة و الإختبار و التطبيق العملي ، كان سيحصل على نفس الدبلوم في ظرف عشر سنوات ، بالاضافة إلى إمكانيات و طموحات إستثمارية تشجعه على خلق مشروع بدل البحث عن وظيفة.
" هذا المبدأ يطبق في دول عديدة و أصبح مثالا ناجحا في تخصصات مثل البرمجة و الهندسة المعلوماتية ".
- تضمن إستقلالية التعليم المالية و التشريعية و التنفيذية.
- تتوقف عن نسخ و لصق المناهج التعليمية المستوردة بدون علم بخصوصية و ثقافة و ظروف البلد المستورد و المستورد منه .
- تعتبر مسؤولية تعليم المواطنين أمنا قوميا ، فهو يحدد مصير أجيال بأكملها و بالتالي مصير الدولة ككل . و بناء عليه يتم وضع هذه المسؤولية في أيدي أشخاص على على قدر عالي من المواطنة و الاستقلالية " عن الداخل والخارج " و الغيرة الوطنية . و توفير الظروف الملائمة لاشتغالهم ، و ربط عملهم بالمحاسبة .
- تزرع بذور العقلية الإستثمارية في الطلاب ، بدل العقلية الإستهلاكية المبنية على التعلم من أجل الحصول على راتب شهري .
- يتوقف إعلامها عن الترويج لصورة الحياة المثالية و السعيدة هي الحصول على وظيفة و شراء شقة و سيارة و إقامة حفل زفاف عن طريق الاقتراض . فهذه أحلام العبودية المالية ، و لا تليق بشباب أي دولة ترغب في أن تصبح دولة عظمى .
- حينما تتوقف عن تحويل التعليم لسلعة تتاجر بها المدارس الخاصة المتعطشة للمال و التي لا تعتبر التعليم عملا مقدسا ، إنما تجارة مربحة و إن كان على حساب جودة التعليم .
- حينما تتوقف عن السماح لكل من هب و دب بأن يصبح أستاذا و معلما.
- حينما تجعل الأستاذ في مرتبة موظف الأمن القومي، و تضمن له الأمن و الإحترام و سبل العيش الكريم.
- حينما يتوقف الآباء عن إجبار أولادهم على سلك مسارات دراسية لا يرغبون فيها .
- حينما تتوقف شعوبها عن الاقتراض لشراء حلوى رأس السنة ، و السفر و شراء آخر أجيال الهواتف . في حين لا تقترض لتوفير تعليم جيد لأبنائها . فإن كان لابد من الاقتراض ، فليكن إستثمارا في التعليم الجيد.